رحلتي في بلاد العمائم
مذكراتي في الاسر 1982-1990 الحلقة التاســعة
طارق الاعسم
في حضرة شقيق الوزير
"كنت سائراً حذاء دجلة (بمحاذاة دجلة) واصاب فمي بلغماً وشاهدت الخليفة مقبلاً عليّ ,فاردت ان ابصق في النهر واسلم على الخليفة , فالتبس الامر عليَّ فبصقت بوجه الخليفة وسلّمت على النهر!!!" . ابن الشمقمق
كانت لحظة رعب لاتوصف قد حلّت علينا ونحن نرى عجزنا عن الدفاع عن زميل لنا في اول موقف وحشي في زنزانات الاسر وسط خطبة من شتائم الشيخ الذي انهال بها علينا( كواويد نسوانكم يني..ون بيهن المصريين وانتوا تقاتلون مع جيش يزيد ضد دولة الاسلام ياكلاب!!!!
خرج الشيخ من الغرفة يتبعه الضابط وجنوده تاركين حسين ملقى على وجهه والدماء تسيل من وجهه.
ساعد ابو سند وطه واسماعيل والاخرون حسين في النهوض ومسحوا وجهه بمنشفة غمسوها بالماء وكان ذهوله وذهولنا اننا جميعا لم نعرف ماهو التقليد الذي اثار الشيخ ؟؟؟!!! حتى شرحه لنا احد الاسرى معنا من اهالي طويريج , و الحقيقة انني حينها عدت بذاكرتي لحديث دار بين والدي وخالي الاكبر ( وكان والدي يساري سابق وخالي قومي ناصري سابق واصبح الاثنان ملتزمان دينيّآ ) ، وكان والدي يشرح لخالي اهميّة التقليد في المذهب الشيعي وان العبادة بدونه لايعتدّ بها وانها باطلة , وحينها لم نتمالك انفسنا من الضحك بل والقهقهة من الورطة التي حملها عنّا جميعاً اخونا حسين . **هامش( لم يكن احد منا يعلم ماهو التقليد الديني وفق المذهب الشيعي وهو ان يعمد كل مسلم الى ان يتبع في طريقة صلاته وصيامه وعباداته ومعاملاته كافة رجل دين مرجع بعينه والعراقيون كانوا يقلدون السيد محسن الحكيم رحمه الله ثم انتقلوا اثر وفاته للسيد الخوئي فالسبزواري فالسيّد السيستاني ووقت اسرنا كان زعيم الحوزة في النجف الاشرف هو السيد ابو القاسم الخوئي ).
الشخص الوحيد الذي ظلّ بلاحراك كان الاسير الايراني (او لنقل الذي يدعي انه ايراني) كان ينظر الينا بنظرة غامضة ..هل هي نظرة الشفقة ام خوف من الانتقام ام شعود بالذنب؟؟... لاأدري ولكن الذي اعلمه انه منذ تلك اللحظة صار اقل عدوانيّة .
مرت الايام رتيبة في الغرفة – الزنزانة بدأنا نتعلم كلمات من اللغة الفارسية بطريقة غريبة ولكنها راسخة رغم السنين ( فجلاّق معدل من العريف يجعلك متأكداً من ان (بشن) تعني (اجلس) وان (بخاب) يعني نام وان (بلانشو) تعني (انهض) وان (بدر سخته ) تعني (ابن المحروق او المحروقة) وهكذا ,ولم يبدو ان الاسير الذي كان يدعي انه ايراني حتى اللحظة مستعد لاي نقاش او مجاملة او مساعدة اخرى في الترجمة ,كان مرعوباً في ردود افعاله من ايٍّ منّا منطوياً على نفسه ,وكان يبدو ممتقع الوجه حذراً دوماً لاسيما وقت صدور الاوامر بالنوم والتي تغلق فيها ابواب الغرفة حينها.
كان من بيننا اسرى يظنون انهم في رحلة استكشاف ويبدون في استرخاء من يحسب الاسر افضل من عذابات ومرمطة الجبهة ,فيما كان القلق هو الهاجس المسيطر على اغلبنا لان ماسمعناه عن ضجة الاسر وبلاويها مالم نراه بعد .
كان من بيننا اسير اسمه اسماعيل لولح حمّادي من اهالي كربلاء ,قصير القامة ملتحي عصبي المزاج ومتوتر وكان يقفز كالمجنون بين الحين والاخرمع كل صوت سيارة تدخل المعسكر وينظر الى النافذة ويتأفأف , وكثيرا ماكان يلملم بطانيته كمن يهمّ بالمغادرة في ايّة لحظة!! وكان الايرانيون قد وزعوا علينا آنية معدنية للطعام وزعوا لكل اسيرين اناء واحد فكان كل اثنين منا يأكلان معا ماعدا الجندي الذي يدعي انه ايراني ,فقد رفض رفضا قاطعا ان ياكل مع اي منا ويلتصق بفراشه قرب الباب رافضا الكلام معنا ولايكف عن الانين فاضطر ثلاثة من الاسرى ان ياكلوا معا ويتركوا له
قصعة مفردة.
وكان شريكي في الصحن المعدني اسماعيل وكان الرجل يكرمني باستلام الطعام وغسل الاناء وكنت ممتنا له جدا فقد كان هو السليم الوحيد بيننا جميعا. وفي احد الايام اثناء الغداء مرّت شاحنة عسكرية تحت شباكنا فقفز اسماعيل هذا بسرعة جنونية الى الشبّاك فطارت قصعة الثلاثة الذين ياكلون معا بجانبنا في الهواء وتناثر الطعام فجنّ جنون احدهم ويدعى يحيى من بغداد –حافظ القاضي واشتبك الاثنان بشجار وصراخ وجاء الحراس الايرانيون وهجموا علينا جميعا
بالضرب بالاحزمة الا اسماعيل الذي اعتذروا له وسألوه بلطف غير معهود عن سبب المشادة فقال لهم انه هو الغلطان وانتهت المشكلة بتنازلنا انا واسماعيل عن طعامنا للثلاثة الذين رفضوا بادب وبتوجّس خيّم على الجميع الذين كان همّهم ان يعرفوا كنه اسماعيل هذا ؟!!!.
ماأن خرج الحراس حتى انزوى كل اسير على فراشه قلقين من اسماعيل الذي فهم انه مطالب بتوضيح وفجأة فجّر اسماعيل مفاجأته الصاعقة حيث نهض وسط الغرفة مخاطبا الجميع:
اخواني انا اعتذر بس انتو متعرفون آني منو؟؟ آني اخو سعدون حمّادي وزير الخارجيّة فعلّق يحيى هازئا واني رئيس الوزراء فرد عليه اسماعيل صارخا انا اسماعيل لولح حمادي شقيق وزير الخارجيّة سعدون لولح حمادي كنت مفوّض شرطة بمركز شرطة الزبير وسرّحني اخي بنفوذه من الشرطة ولبست احتياط في الفيلق الثامن وكنت على وشك الانتقال بنفوذ شقيقي الى وزارة الدفاع في مديرية التجنيد العامة كي لاأكون في الجبهة ولسوء حظي اسرت قبل ان استلم كتاب نقلي وقد علمت من الجنود الايرانيين ان هنالك لقاء سري للغاية حصل قبل ايام في تركيا بين شقيقي وبين وزير خارجية ايران علي اكبر ولايتي لأنهاء الحرب وطالب ولايتي من اخي ابداء حسن نوايا باطلاق سراح وزير النفط الايراني تندوكيان **هامش(وزير النفط الايراني الذي اسر بكمين عراقي في ترعة بهمشير حين كان يتفقد مصفى عبادان عام 1981 اثر قصف المصفى ولم يعلم جنود لواء 33 قوات خاصة بانه الوزير حين اسروه ولكن حين اسر بالكمين مع حراسه كان واضحا انه شخصية هامة وحين اوثقهم الجنود العراقيون بالاشجار صرخ معلنا هويته بعربية ركيكة فأخذ اسيرا كصيد ثمين وموضع تندّر للاعلام الحربي العراقي )
وطالب وزير خارجية الجمهورية العراقية (شقيقي) بي ووافق ولايتي وانا اتوقع ان يأتي الايرانيون ليرجعوني للعراق في اية لحظة, ولذلك ياأخوان اعذروني حين اقفز مع كل صوت سيارة متوقعا الرجوع للعراق وحتما سأكلّم شقيقي بشأنكم!!!!.
كنا فاغرين الافواه ونحن نستمع لاول مرة في حياتنا لشخص قريب من احد اركان السلطة في العراق لان هذا شيء قريب للاحلام كما يعلم العراقيون ,وصرنا نتكلّم بحذر لاننا في حضرة شقيق وزير الخارجيّة .. سارع يحيى بالاعتذار لاسماعيل شاكرا له كرمه بقبول الاعتذار اما انا فقد تحيّنت نداء الحرس لاستلام العشاء لانهض بصعوبة واجلب الطعام لي ولاسماعيل لاول مرّة رغم تمنّع اسماعيل واصراره (لاأدري هل كانت لواكة مني ام رهبة... اضنها لواكة على الاحوط وجوبا وعلى كراهية شديدة )!!!.
طارق الأعســم
----------------------------------------------------------
يمكنكم مراسلة السيد طارق الاعسم على الايميل ادناه
[email protected]
نشرت على موقع سنين الضياع في 11-5-2013
-------------------------------------------------------
لأرسال التعقيبات والملاحظات أو لقراءتها ، يرجى زيارة صفحة تعقيبات الزوار
To Add a comment, visit our Contact Page for more options
------------------------------------------------------
عودة الى صفحة مذكرات الأســرى