من مذكرات وســام الحكيم
الذي قضى اكثر من ثمان سنوات أسير حرب في ايران
سنين في سطور ... الحلقـة 6
الطعام
مازال الجمع بانتظار الوجبه حتى دخل القاعه احدهم ببدله رصاصيه وقميص ابيض وكان بلحيه سوداء قصيرة ويحمل بيده مكبرصوت!!! ... ، و التف عليه جمع من الاسرى و كان يحدثهم و ضحكوا معه . ولو انه لم يفصح عن كونه عراقيا ، بعد ان اعتلى المنصه تحدث بلهجتنا و راح يخاطبنا عن تورطنا بمحاربة جند الاسلام ويلملم الاجابه عن الاسئله من حوله بوضوح وان الامر لايعنيه سوى انه جاء كما قال للترويح . ـ
هسه كلكم مقهورين وبعيدين عن الاهل , راح اقرالكم تعزيه تذب دمعه .. تغسل همومك وذنوبك شويه ,اني سمعت بيكم هنا وجيت دا اروح عنكم ,اكيد محتاجين بجي ....الاكل بعدين وره مانكمل
العبارة الاخيرة تعقيبا على همسات قريبين منه : والاكل شوكت؟
اخوان بلا لطم بس بهدوء حتى لاتصير هوسه وتتعبون اخوانكم الحراس
وابتدأ بخطبه قصيرة عن الحرب بين الحق والباطل ولم يلبث قليلا حتى بدا التململ واصوات الحديث تعلو على صوته : صلوات اخوان... ـ
هاي شنو مو اجيناكم باحترام ماريد اوجه الحراس يسكتوكم هسه شيكولون عليكم, ماعدكم احترام؟
تكررت الصلوات ولم تتوقف الاصوات تتخللها نداءات:ـ
خلي ناكل اول
دجيبو الاكل هسه يروح
هاي اذا اكو اكل
والتفّت عليه مجموعة بعد ان اكمل, للكثيرين كان الجندي ابراهيم ومقايضاته أهَم ... , كلٌّ عنده اولويات خاصة به، تعليقات وتذمر.. ونحن لانصدق ما ترمي به السماء لنا في اقل من ثلاثة ايام .. ـ
ايران هذي تذكرني بـ"تاييس" التي كتبها اناتول فرانس وتحكي عن غانيه جميله توله بها الرجال وذاع صيتها الى راهب كان يريد للجميع ان يعبدوا الرب كما يؤمن به هو، وعلم انها تشغلهم عنه بجمالها وغوايتها فترك صومعته وذهب اليها ليقنعها ... ـ
بعيدا عن كل النقاشات االفلسفيه التي دارت ,انتهى الامر بالغانيه التي انبهر الراهب بجمالها ان تحولت هي الى راهبه ، فخبا جمالها عنده وارتد هو بعد ان وجد اسئلة فيها اكثر من اجوبته وانساق وراء متع لم يجدها قبلا ... ـ
آثرت ان اهرب - بمخيلتي على الاقل- الى القطار واعود الى رحلة اليوم حيث مررنا بقريه يحضنها تل اجرد ، تبعد قليلا عن السكه والممشى بينهما لايعدو اثار خطوات القليلين من والى المحطه التي لاتعدو كونها عمودا عليه ضوءان احمران, اقرب الى السكه ... ، بيت طيني حائطه المواجه لممر القطار في وسطه مستطيل اسود. او بالاحرى سبورة ... ، وكانت تجلس على كرسي قربها فتاة بحجاب وبيدها عصا تشير الى اللوحه السوداء... وبقيت على حالها ملتفته نحو القطار المار والتفت معها مجموعة الاطفال الذين تربعوا على الارض تحميهم السماء الصافيه. ـ
وسرحت بذهني ابعد من ذلك .. عائداً عبر المحطه ومعمل السكر وخطوط الدم والنار الى الخطوط الخلفيه قرب الفكه حيث كنا يومها نتهيأ للذهاب في اجازة وكنا نهم بالصعود في الباص حين سمعنا صاروخين انطلقا وكانت النار منهما كانها الشمس تعود من غروبها ... و ملأ الدوي والغبارالمنطقه وسمعت احدهم :ـ
مصادفين الخير
لا ادري هل كان وداعا لنا ام للصاروخين اللذين جعلا السماء تأن بدوّي الى ان وصلا وجهتيهما واحسسنا ذلك في ارتجاج زجاج الباص قبل ان نصل مقاعدنا. ـ ولا اريد ان اتصور كم من الارواح والغبار قد تطاير في تلك اللحظه .. ـ
طريق الاجازة يمر عبر مدينة العمارة التي ليس فيها مايميزها سوى الاهمال والشوارع البائسه التي مررنا بها احد صباحات ربيع 81 ، و كان مجموعة من الاطفال الصغار في طريقهم الى المدرسه يمسكون كتبهم بيد واليد الاخرى تحيينا بعلامة النصرحيث اصبحنا ابو التحرير واصبعي النصر.. مشاهير ... ويمكنني رؤية ضحكاتهم من القلب.. لم اكن احب الشعور بالشفقه فهم اغلى من ذلك سوى ان ظروفهم كالحة , كان يحلو لنا اعطائهم الحلوى والبسكويت ومكافاتنا فرحهم العفوي وايديهم الصغيرة التي لا تستطيع الامساك بكل ما نعطيهم فكنت اضعها لهم في اكياس فياخذونها ونظرات الاستغراب لاتخفي امتنانهم البرئ ... ، وحين يذهبون لا استطيع الا ان الاحظ بؤس ملبسهم واحذيتهم المتربه الممزقه . واعود بذاكرتي الى طفولتي حين كانت امي الحبيبه رحمها الله تهيئ لي كتبي مع كوب الحليب نظيفا حيث كان برنامج توزيع الحليب في المدارس انذاك وكنت دائما اعود بالكوب كما هو بنظافته , كنت لااحب رائحة الحليب وكيفية توزيعه من قبل الفراش
ـ " شدّود" الرجل كان لديه كوب يغمسه مع نصف يده في السطل الملئ بحليب حار, و بعد الحاح امي على فوائد الحليب قررت ان استلم حصتي ولم اجد صعوبه في ان اجد من ياخذها ولما عدت سالتني امي :ـ
ها ماما شلون الحليب , حدست هي اني لم اشرب شيئا
ماشربته
ليش ابني
نطيتهم اياه, شكلهم مامتريكين
سوده عليه جواعه ... ـ
انا افهم ان ارى مدناً او قرى بائسة في بلدين اكثر من غنيين لاسباب لاحصر لها ,اما ان يكون هناك جوع ... فلا ارى عذرا... ـ
القاعة فيها اكثر من جوع... كم من العوائل تنتظر؟
"سنرجع يوما الى حينا " ولكن متى ؟ ... واتساءل من منا سوف لن يحالفه الحظ وينتهي جسدا غريبا في ارض غريبه؟
مَنْ وراءَ كل هذا الالم .. ومازال يدفع للمزيد؟، وكم ممن فرك يديه فرحا بهذه الطاحونه التي تهرس بلداناً واناسها .. وتحصد في اناءها مالا يحصى من غنيمه ... ـ
اشاعة الاكل اصبحت حقيقه حين تم اخلاء المدرج الاعلى و دخول عدد قليل من الجند المسلحين مع العريف بنظارة و شارب سميكين. وتم ادخال عدد من القزانات بواسطة الطباخين انفسهم و وقفوا بين القدور مبتسمين فخورين بما جلبوا لنا وكانوا مازالوا بملابس المطبخ المدنيه: قميص وبنطلون رماديين وعليهما صدريات نظيفه رغم وضوح بقع الدهن عليها. وكانت بدانتهم وقوتهم واضحة مع اعمارهم المتقدمه و كأنهم حلقة من مصارعي الزورخانة بشواربهم المفتوله. ثم تلاهم مجموعة جنود يحملون الصواني المعدنيه شبيهة بما في المستشفيات وتشكل طابور احادي، ولكن العسكر بدأوا بمحاوله تنظيم طابور كل ستة اشخاص بصينيه وباشر الطباخون بملأ الصواني الاولى بطريقة احترافيه وسريعه ولكن العريف استوقفهم شاكرا واستبدلهم بجنود فغادروا وبمغادرتهم احس المصطفون ان المسالة ستطول مع التوزيع البطئ للجنود وغير العادل كما نرى عن بعد ومازلنا نحن الجالسين بانتظار وصول الطابور الينا !! ـ
وعندما هَمَّ العريف بتشكيل طابور اخر على قزان آخر اجتهد البعض بتشكيل طابور آخر غيره ... وسط اعتراضه والفوضى والاصوات المتعاليه انهارت التشكيلات والمجاميع وتسارع الجميع من كل الجهات وعلى كل القزانات واعتقد ان عددها كان حوالي عشرة وكان المنظر عن بعد كما نشاهده مضحك, مؤلم, مخيف, مقزز هستيري, مخجل, سخيف .... ــ
كل هذا مع الحيرة , كان كل من يغنم بصينيه مليئه يخرج بصعوبه من الحشد ينتظره بعض الطفيليين بكل قلة ادب فيضعون ايديهم في صحنه ويتناولون مايمكنهم غير ابهين بتناثر الاكل على الارض التي امتلات قطعا صغيرة من لحم ورز وكشمش ,وكان بعضهم لايكاد يصل لمجموعته الا بقليل مما تبقى فيبدأ آخر برحلة الغوص في الحشد لجلب مايمكن للحيارى من الجائعين .. ـ
الامور خرجت بشكل واضح عن سيطرة العريف وجنوده ... ، الا انهم كانوا مطمئنين ان لا احد في نيته التوجه الى الباب الذي كان لا يبعد سوى امتار قليله .. ، ومع هذا حاول تفريق الجموع مع مجموعه جنود جلبهم وبدأوا بالضرب العشوائي بالاحزمه العسكريه وكان المتالمون ينسحبون الى ثغرة اخرى , بعد محاولات اتعبتهم . ـ
صرخ احد الجالسين :ـ
ولك سحب مسدسه .... ـ
وفعلا سحب العريف مسدسه و رفعه الى الاعلى ولو لم نكن ننظر اليه لما سمعنا صوت الاطلاقه التي لم تكن اكثر من : تك. ـ
سمعناها هكذا لان الضوضاء والصراخ الذي ملأ القاعه كان طاغيا , فلجأ العريف المسكين الى احد البنادق التي اخذها من احد الجنود المترددين واطلق رصاصه اخرى الى الاعلى سمعها بعض القريبين بقوة وضاعت هي الاخرى وسط الزحام , فابتعد البعض خوفا وانتهز العريف الفرصه وانهال هو والجنود بالضرب ونجحوا بتحرير احد القزانات ولكن ما الجدوى والاكل بدأ ينفد من بعضها التي كان بعضهم يستسهل اكل ماتبقى بدون مزاحمه. كان الامر فيه شئ من المتعه لبعض المجاميع، حيث كان عندهم ممثل داخل الحشد وهناك من يستلم منه الحصه وياخذ منها عالماشي ويناولها لاخر ياخذها لمجموعه كان الشبع واضحا عليهم حيث تركوا الكثير في صحونهم وباشروا بتوزيع المساعدات على العاجزين عن المنافسه واشعرهم ذلك بانهم يتفضلون عليهم .. ـ
نتيجة التدافع كان احدهم يسقط من المدرج مع صحنه الملئ.. ولكن لاخطر عليه حيث يتلقفه المتصيدون من نوع جديد فمنهم من يتلقف الاكل المتطاير بصحن او كليتة او قمصلة.. حتى اني كنت اشك ان هناك من يتعمد دفع الفائز بصينيه مليئه الى احضان الجياع.. ـ
كان الغروب وحده كافيا لان نشعر بالوحشه ولسنا بحاجه الى هذا العرض المسرحي والرياضي في قاعة لم ولن تشهد جمهورا وفرقا تقدم اداءً سيئا لهذا الحد.. ، وكان نواب الضباط من حولي ليسوا احسن حالا فهم ساهمين في حيرتهم :ـ
اذا توزيع الاكل هالشكل يوميه... راح نموت من الجوع ! ـ
قالها احدهم بسخريه والم, ولم يكمل حتى رايت قاسم يقف جنبي
وكليتته نصف منزوعه وفي يده صينيه مليئه...، وجلس ووضعها امامي
واحد من هذوله السرسريه اللي يتملعبون اخذتها منّه ,كتله ويايه جماعه يستحون مو مثلكم اذا ماتنطيني الصينيه والله اكسر عظام وجهك ..انطانياها ورجع للهوسه ,
عجيب ولا يمّه احجي وياه يتمضحك... ـ
يللا اخوان , طلبنا من مجموعة السته الحزينه ان يشاركونا حيث تظاهروا بالانشغال خجلا من النظر الى الطعام.ـ
لا مو مشكله هذا يلله يكفيكم ..ـ
لذيذ العيش ان نشترك ..ـ
مرة سمعتها واعجبتني وهذه افضل لحظه استخدمها لارى البسمه على وجوه السته
انتو ولد اوادم
بدأوا الاكل بحياء ولم نكمل حتى جاءت صينيه اخرى من احدهم الذي جاء وكل شعرة في راسه ووجهه فيها شئ من رز او كشمش , فاستغربت حيث كان اصغرهم واكثرهم خجلاّ
هاي شلون دبرتها ؟
جيتت.. شنسوي لعد؟.. معللاّ مغالباّ خجله
-
الاكل كان - رغم الكميات الكبيرة - مطبوخا بعنايه وبطعم لذيذ , وحين أعَدْتُ انا الصحون الفارغة شاهدت كيف ان الارض كانت مغطاة بكميات كبيرة من الغداء المدهوس .. ، لم اطل النظر لانه منظر لا يسر وقد اجبر العريف مجموعة حددها هو لعملية التنظيف والتي تعمد ان تكون طويله وشاقة .. كما كانت محاولتي غسل يداي .. شاقة!. ـ
بعد اصطياد الغزال يتم تقاسمه بين الاسود والضباع والثعالب والطيور ويتم التهامه، يذهب كل الى مأواه ينظف مخلبه, ويخلد الجميع بعدها الى الراحه...ـ
اما نحن فقد تم توزيع بطانيات عسكريه قديمه سوداء علينا ، بعضهم فرشها واخرون تغطوا بها والكثيرون تشاركوا فافترشوا قسما وتغطوا بالاخر متحاضنين،ـ
هل هناك وصف اجمل للسعادة!! ـ
وسام الحكيم
-----------------------------------------
لأرسال التعقيبات والملاحظات أو لقراءتها ، يرجى زيارة صفحة تعقيبات الزوار
To Add a comment, visit our Contact Page for more options
------------------------------------------
نشرت في 27-5-2013
عودة الى صفحة حديث الاسرى
الذي قضى اكثر من ثمان سنوات أسير حرب في ايران
سنين في سطور ... الحلقـة 6
الطعام
مازال الجمع بانتظار الوجبه حتى دخل القاعه احدهم ببدله رصاصيه وقميص ابيض وكان بلحيه سوداء قصيرة ويحمل بيده مكبرصوت!!! ... ، و التف عليه جمع من الاسرى و كان يحدثهم و ضحكوا معه . ولو انه لم يفصح عن كونه عراقيا ، بعد ان اعتلى المنصه تحدث بلهجتنا و راح يخاطبنا عن تورطنا بمحاربة جند الاسلام ويلملم الاجابه عن الاسئله من حوله بوضوح وان الامر لايعنيه سوى انه جاء كما قال للترويح . ـ
هسه كلكم مقهورين وبعيدين عن الاهل , راح اقرالكم تعزيه تذب دمعه .. تغسل همومك وذنوبك شويه ,اني سمعت بيكم هنا وجيت دا اروح عنكم ,اكيد محتاجين بجي ....الاكل بعدين وره مانكمل
العبارة الاخيرة تعقيبا على همسات قريبين منه : والاكل شوكت؟
اخوان بلا لطم بس بهدوء حتى لاتصير هوسه وتتعبون اخوانكم الحراس
وابتدأ بخطبه قصيرة عن الحرب بين الحق والباطل ولم يلبث قليلا حتى بدا التململ واصوات الحديث تعلو على صوته : صلوات اخوان... ـ
هاي شنو مو اجيناكم باحترام ماريد اوجه الحراس يسكتوكم هسه شيكولون عليكم, ماعدكم احترام؟
تكررت الصلوات ولم تتوقف الاصوات تتخللها نداءات:ـ
خلي ناكل اول
دجيبو الاكل هسه يروح
هاي اذا اكو اكل
والتفّت عليه مجموعة بعد ان اكمل, للكثيرين كان الجندي ابراهيم ومقايضاته أهَم ... , كلٌّ عنده اولويات خاصة به، تعليقات وتذمر.. ونحن لانصدق ما ترمي به السماء لنا في اقل من ثلاثة ايام .. ـ
ايران هذي تذكرني بـ"تاييس" التي كتبها اناتول فرانس وتحكي عن غانيه جميله توله بها الرجال وذاع صيتها الى راهب كان يريد للجميع ان يعبدوا الرب كما يؤمن به هو، وعلم انها تشغلهم عنه بجمالها وغوايتها فترك صومعته وذهب اليها ليقنعها ... ـ
بعيدا عن كل النقاشات االفلسفيه التي دارت ,انتهى الامر بالغانيه التي انبهر الراهب بجمالها ان تحولت هي الى راهبه ، فخبا جمالها عنده وارتد هو بعد ان وجد اسئلة فيها اكثر من اجوبته وانساق وراء متع لم يجدها قبلا ... ـ
آثرت ان اهرب - بمخيلتي على الاقل- الى القطار واعود الى رحلة اليوم حيث مررنا بقريه يحضنها تل اجرد ، تبعد قليلا عن السكه والممشى بينهما لايعدو اثار خطوات القليلين من والى المحطه التي لاتعدو كونها عمودا عليه ضوءان احمران, اقرب الى السكه ... ، بيت طيني حائطه المواجه لممر القطار في وسطه مستطيل اسود. او بالاحرى سبورة ... ، وكانت تجلس على كرسي قربها فتاة بحجاب وبيدها عصا تشير الى اللوحه السوداء... وبقيت على حالها ملتفته نحو القطار المار والتفت معها مجموعة الاطفال الذين تربعوا على الارض تحميهم السماء الصافيه. ـ
وسرحت بذهني ابعد من ذلك .. عائداً عبر المحطه ومعمل السكر وخطوط الدم والنار الى الخطوط الخلفيه قرب الفكه حيث كنا يومها نتهيأ للذهاب في اجازة وكنا نهم بالصعود في الباص حين سمعنا صاروخين انطلقا وكانت النار منهما كانها الشمس تعود من غروبها ... و ملأ الدوي والغبارالمنطقه وسمعت احدهم :ـ
مصادفين الخير
لا ادري هل كان وداعا لنا ام للصاروخين اللذين جعلا السماء تأن بدوّي الى ان وصلا وجهتيهما واحسسنا ذلك في ارتجاج زجاج الباص قبل ان نصل مقاعدنا. ـ ولا اريد ان اتصور كم من الارواح والغبار قد تطاير في تلك اللحظه .. ـ
طريق الاجازة يمر عبر مدينة العمارة التي ليس فيها مايميزها سوى الاهمال والشوارع البائسه التي مررنا بها احد صباحات ربيع 81 ، و كان مجموعة من الاطفال الصغار في طريقهم الى المدرسه يمسكون كتبهم بيد واليد الاخرى تحيينا بعلامة النصرحيث اصبحنا ابو التحرير واصبعي النصر.. مشاهير ... ويمكنني رؤية ضحكاتهم من القلب.. لم اكن احب الشعور بالشفقه فهم اغلى من ذلك سوى ان ظروفهم كالحة , كان يحلو لنا اعطائهم الحلوى والبسكويت ومكافاتنا فرحهم العفوي وايديهم الصغيرة التي لا تستطيع الامساك بكل ما نعطيهم فكنت اضعها لهم في اكياس فياخذونها ونظرات الاستغراب لاتخفي امتنانهم البرئ ... ، وحين يذهبون لا استطيع الا ان الاحظ بؤس ملبسهم واحذيتهم المتربه الممزقه . واعود بذاكرتي الى طفولتي حين كانت امي الحبيبه رحمها الله تهيئ لي كتبي مع كوب الحليب نظيفا حيث كان برنامج توزيع الحليب في المدارس انذاك وكنت دائما اعود بالكوب كما هو بنظافته , كنت لااحب رائحة الحليب وكيفية توزيعه من قبل الفراش
ـ " شدّود" الرجل كان لديه كوب يغمسه مع نصف يده في السطل الملئ بحليب حار, و بعد الحاح امي على فوائد الحليب قررت ان استلم حصتي ولم اجد صعوبه في ان اجد من ياخذها ولما عدت سالتني امي :ـ
ها ماما شلون الحليب , حدست هي اني لم اشرب شيئا
ماشربته
ليش ابني
نطيتهم اياه, شكلهم مامتريكين
سوده عليه جواعه ... ـ
انا افهم ان ارى مدناً او قرى بائسة في بلدين اكثر من غنيين لاسباب لاحصر لها ,اما ان يكون هناك جوع ... فلا ارى عذرا... ـ
القاعة فيها اكثر من جوع... كم من العوائل تنتظر؟
"سنرجع يوما الى حينا " ولكن متى ؟ ... واتساءل من منا سوف لن يحالفه الحظ وينتهي جسدا غريبا في ارض غريبه؟
مَنْ وراءَ كل هذا الالم .. ومازال يدفع للمزيد؟، وكم ممن فرك يديه فرحا بهذه الطاحونه التي تهرس بلداناً واناسها .. وتحصد في اناءها مالا يحصى من غنيمه ... ـ
اشاعة الاكل اصبحت حقيقه حين تم اخلاء المدرج الاعلى و دخول عدد قليل من الجند المسلحين مع العريف بنظارة و شارب سميكين. وتم ادخال عدد من القزانات بواسطة الطباخين انفسهم و وقفوا بين القدور مبتسمين فخورين بما جلبوا لنا وكانوا مازالوا بملابس المطبخ المدنيه: قميص وبنطلون رماديين وعليهما صدريات نظيفه رغم وضوح بقع الدهن عليها. وكانت بدانتهم وقوتهم واضحة مع اعمارهم المتقدمه و كأنهم حلقة من مصارعي الزورخانة بشواربهم المفتوله. ثم تلاهم مجموعة جنود يحملون الصواني المعدنيه شبيهة بما في المستشفيات وتشكل طابور احادي، ولكن العسكر بدأوا بمحاوله تنظيم طابور كل ستة اشخاص بصينيه وباشر الطباخون بملأ الصواني الاولى بطريقة احترافيه وسريعه ولكن العريف استوقفهم شاكرا واستبدلهم بجنود فغادروا وبمغادرتهم احس المصطفون ان المسالة ستطول مع التوزيع البطئ للجنود وغير العادل كما نرى عن بعد ومازلنا نحن الجالسين بانتظار وصول الطابور الينا !! ـ
وعندما هَمَّ العريف بتشكيل طابور اخر على قزان آخر اجتهد البعض بتشكيل طابور آخر غيره ... وسط اعتراضه والفوضى والاصوات المتعاليه انهارت التشكيلات والمجاميع وتسارع الجميع من كل الجهات وعلى كل القزانات واعتقد ان عددها كان حوالي عشرة وكان المنظر عن بعد كما نشاهده مضحك, مؤلم, مخيف, مقزز هستيري, مخجل, سخيف .... ــ
كل هذا مع الحيرة , كان كل من يغنم بصينيه مليئه يخرج بصعوبه من الحشد ينتظره بعض الطفيليين بكل قلة ادب فيضعون ايديهم في صحنه ويتناولون مايمكنهم غير ابهين بتناثر الاكل على الارض التي امتلات قطعا صغيرة من لحم ورز وكشمش ,وكان بعضهم لايكاد يصل لمجموعته الا بقليل مما تبقى فيبدأ آخر برحلة الغوص في الحشد لجلب مايمكن للحيارى من الجائعين .. ـ
الامور خرجت بشكل واضح عن سيطرة العريف وجنوده ... ، الا انهم كانوا مطمئنين ان لا احد في نيته التوجه الى الباب الذي كان لا يبعد سوى امتار قليله .. ، ومع هذا حاول تفريق الجموع مع مجموعه جنود جلبهم وبدأوا بالضرب العشوائي بالاحزمه العسكريه وكان المتالمون ينسحبون الى ثغرة اخرى , بعد محاولات اتعبتهم . ـ
صرخ احد الجالسين :ـ
ولك سحب مسدسه .... ـ
وفعلا سحب العريف مسدسه و رفعه الى الاعلى ولو لم نكن ننظر اليه لما سمعنا صوت الاطلاقه التي لم تكن اكثر من : تك. ـ
سمعناها هكذا لان الضوضاء والصراخ الذي ملأ القاعه كان طاغيا , فلجأ العريف المسكين الى احد البنادق التي اخذها من احد الجنود المترددين واطلق رصاصه اخرى الى الاعلى سمعها بعض القريبين بقوة وضاعت هي الاخرى وسط الزحام , فابتعد البعض خوفا وانتهز العريف الفرصه وانهال هو والجنود بالضرب ونجحوا بتحرير احد القزانات ولكن ما الجدوى والاكل بدأ ينفد من بعضها التي كان بعضهم يستسهل اكل ماتبقى بدون مزاحمه. كان الامر فيه شئ من المتعه لبعض المجاميع، حيث كان عندهم ممثل داخل الحشد وهناك من يستلم منه الحصه وياخذ منها عالماشي ويناولها لاخر ياخذها لمجموعه كان الشبع واضحا عليهم حيث تركوا الكثير في صحونهم وباشروا بتوزيع المساعدات على العاجزين عن المنافسه واشعرهم ذلك بانهم يتفضلون عليهم .. ـ
نتيجة التدافع كان احدهم يسقط من المدرج مع صحنه الملئ.. ولكن لاخطر عليه حيث يتلقفه المتصيدون من نوع جديد فمنهم من يتلقف الاكل المتطاير بصحن او كليتة او قمصلة.. حتى اني كنت اشك ان هناك من يتعمد دفع الفائز بصينيه مليئه الى احضان الجياع.. ـ
كان الغروب وحده كافيا لان نشعر بالوحشه ولسنا بحاجه الى هذا العرض المسرحي والرياضي في قاعة لم ولن تشهد جمهورا وفرقا تقدم اداءً سيئا لهذا الحد.. ، وكان نواب الضباط من حولي ليسوا احسن حالا فهم ساهمين في حيرتهم :ـ
اذا توزيع الاكل هالشكل يوميه... راح نموت من الجوع ! ـ
قالها احدهم بسخريه والم, ولم يكمل حتى رايت قاسم يقف جنبي
وكليتته نصف منزوعه وفي يده صينيه مليئه...، وجلس ووضعها امامي
واحد من هذوله السرسريه اللي يتملعبون اخذتها منّه ,كتله ويايه جماعه يستحون مو مثلكم اذا ماتنطيني الصينيه والله اكسر عظام وجهك ..انطانياها ورجع للهوسه ,
عجيب ولا يمّه احجي وياه يتمضحك... ـ
يللا اخوان , طلبنا من مجموعة السته الحزينه ان يشاركونا حيث تظاهروا بالانشغال خجلا من النظر الى الطعام.ـ
لا مو مشكله هذا يلله يكفيكم ..ـ
لذيذ العيش ان نشترك ..ـ
مرة سمعتها واعجبتني وهذه افضل لحظه استخدمها لارى البسمه على وجوه السته
انتو ولد اوادم
بدأوا الاكل بحياء ولم نكمل حتى جاءت صينيه اخرى من احدهم الذي جاء وكل شعرة في راسه ووجهه فيها شئ من رز او كشمش , فاستغربت حيث كان اصغرهم واكثرهم خجلاّ
هاي شلون دبرتها ؟
جيتت.. شنسوي لعد؟.. معللاّ مغالباّ خجله
-
الاكل كان - رغم الكميات الكبيرة - مطبوخا بعنايه وبطعم لذيذ , وحين أعَدْتُ انا الصحون الفارغة شاهدت كيف ان الارض كانت مغطاة بكميات كبيرة من الغداء المدهوس .. ، لم اطل النظر لانه منظر لا يسر وقد اجبر العريف مجموعة حددها هو لعملية التنظيف والتي تعمد ان تكون طويله وشاقة .. كما كانت محاولتي غسل يداي .. شاقة!. ـ
بعد اصطياد الغزال يتم تقاسمه بين الاسود والضباع والثعالب والطيور ويتم التهامه، يذهب كل الى مأواه ينظف مخلبه, ويخلد الجميع بعدها الى الراحه...ـ
اما نحن فقد تم توزيع بطانيات عسكريه قديمه سوداء علينا ، بعضهم فرشها واخرون تغطوا بها والكثيرون تشاركوا فافترشوا قسما وتغطوا بالاخر متحاضنين،ـ
هل هناك وصف اجمل للسعادة!! ـ
وسام الحكيم
-----------------------------------------
لأرسال التعقيبات والملاحظات أو لقراءتها ، يرجى زيارة صفحة تعقيبات الزوار
To Add a comment, visit our Contact Page for more options
------------------------------------------
نشرت في 27-5-2013
عودة الى صفحة حديث الاسرى