أشجار البرتقال
قصة للروائي محمود سـعيد - 1987
يا بوووي.. هوت الأكف على الصّدر فوق الثّديين، صراخ من القلب،
إيقاع الضّرب ارتفاعاً وانخفاضاُ لازمة حزن أبدية، موجة تفجع تغرق الجميع منذ أن
دفن الشّهيد فجراً، أصبح الوجه والصّدر أحمرين أدكنين كالشّوندر، فقدت أم يونس
وعيها غير مرة، جزّت شعرها، شاركها الجميع حزنها بتفجع، لكنّهن كنّ وهنّ ينحن
يراقبنها كي لا تقتل نفسها، ومن دون شعور مدّت يدها إلى زيقها، شقّت ثوبها، فشعّ
إهابها أدكن متشقّقاً تنزّ الدّماء منه، وتهدّل ثدياها كجوربين عتيقين، أمّا هي
فقد ظلّ لسانها معقوداُ، لا تستطيع أن تصرخ، حتى أنّها لم تتأوّه، عيناها فقط
تسحّان الدّمع غزيراً لا ينقطع، عضّت يديها، أصابعها، لطمت وجهها، صدرها، لكنّها
لم تستطع إخراج صرخة واحدة، ماذا أصابها؟ تكثفت الفاجعة في قلبها، حديداً صلباً،
ثم بدأ ينزل إلى معدتها يكاد يمزقها ببرودته وصلابته، وثقله، ومن هناك أحسّت به
يصعد، يسدّ بلعومها، يشلّ لسانها، هي زوجته أحبّ النّاس إليه لا تخرج صوتاً
واحداً، وكلّ الحاضرات يندبن ويصرخن، لكنْ أهنّ ينحن على حبيبها أم على أحبّائهن؟
نعم. شاركتهن مصائبهن وهنّ لا يرددن المشاركة بل يفرجّن عن أنفسهن بالبكاء، يا
للغمامة السّوداء! عندما تدخل السّيارات الزّقاق وعليها النّعوش الملفوفة بعلم
الوطن، كيف يغرق الزّقاق بالفوضى والصّراخ والبكاء واللطم والنّدب، لم يبق بيت من
بيوت الزّقاق العشرة إلا ونكب، ها هو آخر بيت بيتها يجلّله السّواد الآن، ماكنة
الحرب لا تني تطحن، أسيأتي الدّور إلى واصف؟ لا. سبع سنين من الحرب كافية. أستنتهي
خلال عام؟ عامين، خمسة عشر؟ أسيعيش الطّفل في سلام؟
- يا بوووي..طب..طب.
تهوي الأكف على الصّدور، خديجة تبكي على راكان سحبوه
للجيش الشّعبي ثم اختفى في القرنة، وسعدة على نسيم في ديزفول، وهبية على خالدّ
سحقته سيارة استخبارات في المعسكر يقودها أرعن سكير، وعمشة على حسين في شرق
البصرة، بلقيس وأخوات حسن، وأم طاهر الشّمعة يبكين بجنون يفتت الصّخر، يعوّضن
ببكائهن عن العزاء الذّي مُنعوا من إقامته في بيوتهن، الرّجال أيضاً منعوا من لبس
شيء أسود حتى الأربطة! ثم جاءت المفرزة القاسية أخرجت كلّ موجودات بيت بلقيس وأم
طاهر، كوّمتها في الشّارع وأحرقتها: يا ناس. يا عالم. صحيح أخي. لكن هذا بيتي لا
بيته. لم يكن له بيت.
خائن! متخاذل! جاؤوا به مثخن الجراح، لا يستطيع تحريك
يديه، أوثقوه إلى عمود الكهرباء أمام البيت، ربطوا عينيه اللتين لم يستطع فتحهما
أصلاً، رموه بالرّصاص، تركوه على الأرض، ما غادروا حتى أخذوا ثمن الطّلقات، دفعها
كريم، والآن حتى يونس ذهب.
لكنّها غير مصدّقة. إنه أقرب إليها حتى من أمه التي
تلاصقها، كلماته حيّة، هنا كان يستريح عندما يدخل الدّار، هنا يجلس أمام
التّلفزيون على الأرض، يُتكئ ظهره إلى الحائط، هنا يرمي واصف في الهواء ويتلقفه،
هنا ملابسه، أدوات حلاقته، كبته، عطره، لا. لا يمكن. سيأتي.
كيف استطاعت الغرفة أن تتسع لهاتيك النّساء؟ كيف
انعقدت في سمائها تلك السّحب الخفيّة التي تفوح بروائحهن، رطوبتهن، أبخرتهم، حتى
كادت تصبح حماماً ساخناً.
أخذ طفل في الرّابعة يخترق الأجساد المتلاصقة، أبيض
البشرة، واسع العينين، فمه وردي ككرزة فاتنة، دموع جافة على خديه، بكى لبكاء
الجميع أوّل الأمر، ثم تعلّق بصدرها حتى جاءت بسمة ابنة الشّهيد طاهر، أخذته، ملأت
جيب دشداشته البيضاء حلوى، ظلت تلهيه حتى التّهت هي نفسها بلعبة "الجولة"، هي
ودنيا ابنة راكان، استغلتا خلو البيت، فرصة العمر، لا من يلوم ولا من يقرِّع،
رسمتا على الأرض مستطيلاً قطّعتاه إلى مربعات، وأخذتا تقفزان على رجل واحدة
وتدفعان حصاة مسطحة من مربع إلى آخر على أن لا تقف الحصاة على الخط بين المربعين،
لعب واصف معهما، تحملتاه برهة، ثم منعتاه، أحسّ بالملل، ما إن شاهد الهواء يدفع
فردة الباب الحديد حتى اندفع عبر الزّقاق الضّيق راكضاً حافياً،.الجميع مشغول عنه،
لا من يعتني به، لا من يداعبه، لماذا يرى كلّ شيء يختلف الآن؟ حتى جدّته رآها
لأوّل مرة من دون غطاء رأس، خاف منها، من أين جاءت بهذا الشّعر الكثيف الأبيض
اللامع؟ ماذا حدث، ما معنى شهيد؟ حدق بأعلى الشّجرة، رأى بلبلاً صغيراً يغرّد،
ضحك، صفق له، أخذ يصفر له برهة، ثم اندفع بين الأجساد المتراصة، حتى إذا وصل إلى
أمّه، صرخ: عمو قادر. أمّي عمو قادر جاء.
أخذ يسحب أمّه من يدها، يصرخ وسط الجلبة التي امتصّت
صوته، بدأ يسحبها، قالتّ لها أمها: اخرجي. انظري ماذا يريد؟
نهضت شبه مخدرة، تجاوزت الأجساد المتجاورة، أصبحت
خارج الباب حيث حديقة صغيرة لا تتجاوز مترين مربعين فيها سدرة واحدة وارفة
الظّلال، تحتها قرنفل ذو ألوان شتى، زرعه بيديه في إحدى إجازاته بينما كان ظل
النّبقة يغطي الباب.
تعلّق الطّفل بثوبها، حملته، هتف، أشار إلى بلبل،
صغير، لا يتجاوز طول عشر سنتمترات، يقف على قمة الشّجرة، وواصف يصفر كما كان يفعل
أبوه، يومئ إلى البلبل، يحرّك يديه، يضحك، يناديه، عمو قادر، نظرت إلى موطئ
قدميها، نفس المكان الذّي كان يقف فيه يونس في كلّ إجازة منذ استشهاد قادر قبل أحد
عشر شهراً وحتى آخر مرّة قبل خمسة أيام. كان يحمل واصف، يتكلّم، يصفر، واصف يضحك
سعيداً، خرجت لترمي الزّبالة، رأته، ظنّته يفعل ذلك مداعبة لواصف، مازحته: ,,أتكلم
طيراً. جننت؟،،
-,,لحظة واحدة..أنظري،،
-,,ما به،،
-انظري جيداً، أيمكن لبلبل أن يقترب هكذا من أيّ
إنسان؟ قدم واحدة فقط تفصله عنا.
حدّقت تلك الحلقة البيضاء النّاصعة حول عنق البلبل،
قوادمه التي ينسل فيها خيط من صفرة معشوشبة، عيناه الصّافيتان المدوّرتان
الحيّتان، ذيله الذّي يتحرّك كاللّولب في شتى الاتجاهات.
- ما أجمله!
- لا أتكلم عن الجمال..أتعرفين من هو؟
- ماذا يمكن أن يكون؟ بلبل!
هتف واصف وأبوه معاً: قادر.عمو قادر.
كان يحدّق بعينيها كأنّه يأمرها أن لا تنسى، جلجلت
ضحكتها، عانقته من ظهره: "حبيبي مجنون." أدخلت رأسها تحت إبطه الأيمن، أحبّ جنونك،
دغدغته بيمناها في سرته حيث يفقد أعصابه فجأة ويقفز، كاد يسقِط واصف الذّي أغرق
ضاحكاً ظانّاً أنّهما يلاعبانه، صفق بيديه، أحست بالنّشوة، التّصقت به وجسدها
يسخن، لفت يسراها على رقبته، عضت أذنه بشوق، هتف: عيب.
لا تفعلي ذلك أمام قادر.
أبعدها برفق.
- أجننت؟ إنّه طير.
- لا بل قادر، قادر وليّ من أولياء الله. حتى إن مات
تبقى روحه خالدّة. انظري. راقبي كيف سيجيب على أسئلتي!
صفر البلبل لحناُ، سأله كريم: متى ستقبِّل واصف؟ زغرد البلبل، التّفت يونس إليها، (انظري ماذا سيفعل!) حدقت غير مصدقة، لكن البلبل اقترب من واصف أدخل منقاره الجميل بين شفتي واصف برهة وهو يحرّك جناحيه بسرعة، أحسّت بالهواء يندفع من تحت جناحيه نحو وجوههم، ثم ابتعد، رجع إلى الشّجرة، زغرد من جديد، قال كريم: (في أمان الله مع السّلامة).طار البلبل.
- أرأيت طائراً يقترب من البشر هكذا؟
- صدفة. أنت دربته. أحد عشر شهراً تدربه!
- لا صدفة ولا تدريب. إنه هو. لم أر البلبل إلا بعد استشهاده. لماذا؟
- جنّ حبيبي.
حدّق بعينيها في عمق: لا لم أُجن ..كنا تعاهدنا أن يخلي كل منا الآخر إن أصيب في المعركة، كان قربي عندما دفنتنا القذيفة بالوحول، كدت أختنق، لم أعرف ماذا أفعل! أخذت أحرّك أطرافي بعشوائية، حتى إذا صعدت على وجه الأرض ومسحت وجهي من الوحول وانتزعت نفسي فكرت فيه، بحثت عنه، لم أجد سوى بقايا جثة وعينين مفتوحتين معفرتين بالوحول، لكنّي لم أنسه، لم أنس عشرته، كيف أخذني إلى أحد مشاتل الخضراء، سأل عن شجيرات البرتقال، كانت الأسعار تتراوح بين مئة فلس للصغيرة ودينار للكبيرة المثمرة، وعندما خرجنا، أعطاني عشرين ديناراً، قال لي إن
قُتلت فازرع حول قبري عشر أشجار برتقال مثمرة كبيرة، وأعط حارس المقبرة ديناراً
كلّ شهر ليسقي الأشّجار ويعتني بها، وقل له أنْ لا يمنع أيّ شخص وبخاصة الفقراء من
حوي الثّمر، وحلّفه بالقرآن على ذلك. وعندما سالتّه لماذا أشجار برتقال بالذّات وليس زيتون؟ نخل؟ قال: لأني محروم منها في طفولتي. ضحكت، قلت: سأفعل لكن من جيبي. أصرّ، أعطاني الفلوس، قال لي: ستزورك روحي في كلّ إجازة تأتي بها من ساحة المعركة، وستعرف أن الزّائر أنا. كان متخصّصاً بالصّوفية. هو الذّي علمني مبادئها. لذلك تريني في كل إجازة أذهب إلى المقبرة.
وأرى الحارس.
كانت تحصي أيام غيبته، خط أحمر على الرّوزنامة، واحد وعشرون، اثنان وعشرون يوماً، سيأتي اليوم، لا يتأخر أكثر، القلم الأحمر له وحده، الأسود لأهل المحلة ولها، لمشترياتها، إنشاء لبسمة وحسون أبناء الجيران، رسائلهم إلى ذويهم، تضرع وهبية إلى المسؤولين تطلب منهم اعتبار ولدها الذّي دهس داخل المعسكر شهيداً، استرحام بلقيس تؤكد أنّها لم ترَ أخاها منذ عام، فلماذا يحرقون
أثاث بيتها؟ شكوى الأم التي سرق منها أبو فاروق كل شيء، ليس معها ما تأكل، طلب
النّفقة من عدنان الأعور وأكرم أبو ( كروة) لأمهما. أمّا الأحمر فللنشوة، أشواقها ليونس خلال غيباته المنتظمة، تقرؤها عليه عندما يختليان وحدهما وبعد أن ينام واصف. كلّ يوم سطر أو سطران، اقتباسات من جريدة، مجلة، أغنية، فكرة ما عنّت لها، ما أن تضع القلم بيدها حتى تجده أمامها، هالة الشّعر، قوس كالتّاج فوق جبينه، عيناه واسعتان، بشرة بيضاء ناصعة، نظراته، سكناته، حركاته، كلّ شيء أمامها، ما أن تمسك الأحمر بين أصابعها، تسخن دماؤها، تصبح كلّها رغبة شوقاُ عطشاً حبّاً نشوةً، اكتبي هذين البيتين من الشّعر، قادر علمنيها:
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة في الماء الزّلال
فإذا مسّـــــــــك ضر مســــني فإذا أنت أنا في كــــــل حـــــال
احفظيها، ردّديها وفكّري فيّ، ترين أنّك ذبت فيّ.
تريني أمامك، تلاشيت في جسدي. تتّحد عندئذ روحانا، نصبح روحاً واحداً، جسماً
واحداً، وجودي وجودك، حبّي حبّك، جسدي جسدك.
سجّلت بالأحمر كلّ ذلك.
- ماما. تكلّمي مع عمو قادر. صفّري له مثل بابا.
ارتجفتْ، حدقت بعيني البلبل المدوّرتين، يحيط الاطار العسليّ للعين نقطة سوداء لامعة، تعكس صورتها تحمل واصف على صدرها، في ضوء نهار هادئ حزين، آنئذ نزل بلبل ثانٍ، صغير أيضاً، رقبة بيضاء منقار بلون العشب اليابس، ذيل أسود، يتحرك كشراع في عاصفة، عينان ساحرتان، ما هذا العمق، الحرارة، الحميميّة في داخلهما؟
نظر البلبلان إلى بعضهما، طقّ منقار أحدهما منقار
الآخر طقتين، طار القديم، زغرد، وقف على غصن في أعلى السّدرة.
ظل الثّاني أمامهما، غرّد تغريدة طويلة كما لو كانت لازمة موسيقيّة، لحن لأغنية، ما هذا؟ أغنية معروفة لديها، في أعماقها، في وجدانها، أحرفها مكتوبة بالأحمر:
مزجت روحك في روحي..
ما هذا الصّوت الذّي يصدر منها والمأتم والنّواح على بعد خطوات؟ غناء وليس صوتاً، لحن، أنغام، منها؟ منه؟ روحها؟ روحه؟، لها؟ له؟
صفق واصف، ضحك، الموجة تسكر الطّفل والبلبل يغرّد وهي تغني معه، يتوقّف لحظة، يطير، يحوم حول وجهيهما، يدخل منقاره بالتّناوب بين شفاههما، يرجع إلى مكانه مرحاً يغرد، يغرد. كلمات يونس تملأ عليها الجوّ: فكري بي، تلاشيْ، ذوبي.
أخذت تخفّ، لم يبقَ لجسدها وزن، وأخذ صوت النّواح يبتعد كما لو جاء عفريت جبار من الجن كنس النّسوة كلّهن بنفخة منه واختفى معهن في كهف عميق تحت الأرض حيث لا صوت ولا نأمة غير تغريد البلبل وضحكات واصف وتلاشيها.
محمود سعيد - 1987
عودة الى الرئيســية