رحلتي في بلاد العمائم
مذكراتي في الاسر 1982-1990 الحلقة السـابعة
طارق الاعسم
(ظل حيطه ولاظل راجل ) مثل مصري معكوس!!!
خطوات في طريق العفن
كان (دجبان مركز) معسكرعظيم المساحة مليء بالبنايات واشجار القوق العملاقة يقع في قلب طهران العاصمة وهو مقر الانضباط العسكري العام وفيه دوائر للاستخبارات الايرانية (دايرة دوفوم) وفيما بعد علمت ان من هذا المعسكركانت تتم ادارة كافة معسكرات الاسرى استخباريّا من الخبز حتى قطع القابلوات التي يتم جلدنا بها دونما رحمة.
كان هنالك في المعسكر مركز تسفيرات مزري للغاية وكان محطة ارسال واستقبال اسرى ومن
خلاله كان يتم ارسال الاسرى الى المحاكمات الهزليّة التي يتولى بها معممون الضرب والشتم واصدار الاحكام الجائرة بالسجن داخل السجن وبالجلد والاعدام المؤجل احيانا.
بعد آذان المغرب جاء عسكريان لنقلي انا وعبد الستار الى سجن التسفيرات الذي يبعد بضعة
مئات من الامتار عن المستوصف .
كانت بوابة التسفيرات تتوسط جناحين في كل جناح قاعة فيها مجموعة من الاسرى ,وقد خصصت
القاعة اليمنى وهي غرفة صغيرة للجرحى الذين تجرى لهم اسعافات اولية والتي سنبيت فيها ريثما يتم توزيعنا على معسكرات الاسر, فيما علمت ان القاعة الثانية تحوي على طباخين وحمّالين من الاسرى القدامى ممن يعملون في المطبخ المركزي الذي يورّد الطعام لمعسكرات الاسرى, فلقد كان هنالك في معسكر (دز- مر) كما يختصرونه مطبخ مركزي لطبخ وجبات الطعام لاسرى معسكرات طهران العاصمة وكان كادره في باديء الامر هم الطباخون العسكر من الايرانيين والحقيقة فان بعض ضعاف النفوس منهم كانوا يعمدون الى خلط التراب بالرز والقاء المسامير في المرق ووصل الحال الى ان يرمي احد الجنود الايرانيين ببسطاله العفن في قزان ساخن للمرق مما اثار نوبة احتجاجات كبيرة في احد المعسكرات ووصل الامر الى اضراب عن الطعام صدر بعده قرار بان يكون مطبخ الاسرى المركزي في دز مر باشراف عرفاء طباخين ايرانيين وكادر طباخين من الاسرى وكذلك
تعيين حمالين للمطبخ وتكون اقامة هؤلاء في قاعة التسفيرات المقابلة لقاعتنا وكان الاتصال بيننا ممنوعا للغاية.
كانت الغرفة التي دخلناها مغطاة ببطانيات سوداء رديئة النسج تصبغ الوجه والكفين وتنثر صبغها علينا كلما احتكت بها اجسادنا كما ان صوفها سهل الحك بشكل غريب .
وقد سلمت المستشفى لكل منا بيجاما زرقاء فاتحة من قطعتين ونعال بلاستيك ومنشفة للوجه وكان الجميع يئن من الالم وكان الليل قد خيّم علينا ونحن ممددون بشكل عشوائي في الغرفة الضيقة
(12 متر مربع) التي لم تعد تحتمل انّات اكثر من ثلاثين جريحا بعضهم حالتهم صعبة بشكل جعلني احمد الله على اصابتي.
حشرت نفسي بمكان قرب الزاوية التي كان يشغلها اسير عراقي باسم الوجه طويل القامة اسمه (جمال) جريح في قدمه جرحا في اللحم وكان على جنبي الاخر اسير حلاوي اسمه حيدر قصير القامة ابيض البشرة مشرب بالحمرة بوجه طفولي لايتناسب ونفثه للسيجارة التي كان يدخنها بشراهة المهموم وكان مصابا في كتفه وكانت تصرفاته غريبة والمفارقة ان اذرع الاثنين كانت مليئة بالوشوم , وتوجست خيفة حين دققت بوشم حيدر الذي كتب به عبارة (اهل الوفه ماوفوا!!!) فيما كان جمال يملا زنده بوشوم للعقارب والافاعي ، وبدأ اسامة يجري حديثا غريبا في مفرداته مع حيدر وانا ممدد وسطهما .
علمت من حديث الاثنين ان جمال بحّار سابق من اهالي البصرة وانه قد قضى عمره هاربا من
الخدمة العسكرية وبدا ان هنالك لغة مشتركة قد بنيت بين الاثنين ابتدأت بحنان الام المفقود و(مشتاق لحضن الوالدة ) وصار جمال يغمز لي باسما بما لاأفهمه فيما كان يسأل حيدر عن قصّة وشمه فحدّثه حيدر عن قصة تافهة عن صديق غدر به وخانه (كذا!!) وحينها بدأت عينا جمال باللمعان وبدا يمد حيدر بالسيجارة تلو الاخرى في كرم غريب ( ولاأدري من اين اتى بالسجاير)!!!كنت اتمنى ان يقدم لي سيجارة ولكنني خجلت ان اطلب منه.
اطفا الحارس الايراني النور صارخا فينا بكلمات بالفارسيّة فهمنا منها انه يريد منا الصمت والنوم, وما أن حلّ الظلام الدامس حتى بادر جمال لأن ينفحني لفافة سجائر هامسا في اذني وهو يشعل السيجارة لي (خوية انته تعبان والزاوية احسن الك فخلّي نبدّل بالمكان آني وياك لان حيدوري محتاج حنان الوالدة!! . اصبت بالرعب والذهول وسارعت بالموافقة ورغم المكان الضيّق فان جمال ابتعد عني مقتربا من حيدوري و اصبح الاثنان متلاصقان وبدا الهمس , ومع اول ضحكة كتومة وانّات خافتة رأيت ان من الاسلم الاحوط وجوبا!!! ان اؤجل اشعال اللفافة وان الصق ظهري للحائط بحركة لاشعوريّة مرددا المثل المصري معكوسا ليصبح (ظل حيطة ولاظل راجل) وغطيت رأسي بمنشفة, وبرغم رعبي استسلمت في غيبوبة لنوم عميق.
----------------------------------------------------------
يمكنكم مراسلة السيد طارق الاعسم على الايميل ادناه
[email protected]
نشرت على موقع سنين الضياع في 5-5-2013
-------------------------------------------------------
لأرسال التعقيبات والملاحظات أو لقراءتها ، يرجى زيارة صفحة تعقيبات الزوار
To Add a comment, visit our Contact Page for more options
------------------------------------------------------
عودة الى صفحة مذكرات الأســرى