الوقوع في الأســر
من مذكرات قصي محمد امين الزهيري - الموصل- العراق
والذي قضى ما يزيد على اثنتي عشرة سـنة أســيرَ حرب في ايران
وأطلق سراحه عام 2000.
1
عدتُ من أوربا في ايلول 1973 و بدأت الأفكار تراودني بشدة للعيش في ريف شمالنا الحبيب ، لتشابه الطبيعة التي كنت أعيشها في اوربا مع ربوع شمالنا و أجوائه الساحرة. وقد شجعني على ذلك امتلاك والدي لقرية جميلة يمر من وسطها نهر الكومل ليحولها الى جنة صغيرة ،أسكنها مع عائلتي وأبدأ حياة آمنة بين ربوعها الجميلة.
، لم يكتب لذلك الحلم الجميل أن يتحقق ...
تناثرت صوره على صخرة الاحداث السياسية و ما صحبها من اضطرابات ومشاكل أمنية في الشمال ، بدأت تتصاعد نحو اجواء غير مستقرة تنذر بالتوتر والاضطرابات ثم الحرب...
قمت بالبحث عن عمل مناسب – إذ ليس من طبعي الكسل أوالاتكال على أحد ، فالعمل هو الحياة. وجدت عملا عند صديق لي في شركة الخطوط الاسكندنافية في بغداد ، ثم استطعت ان احول مسار عملي الى الموصل و عن طريق الصدفة ... والصدفة قد لعبت الكثير في حياتي ، فقد حصلت على عمل في بادوش قرب الموصل ، بعد التقائي برجل ألماني على متن طائرة الخطوط العراقية المغادرة من بغداد و حديثي معه باللغة الالمانية التي أجيدها ، إذ عرض علي العمل شركته الخاصة ، وبميزات مغرية نسبة الى ظروف الوقت المعاشية آنذاك. و عملت معهم حتى نهاية عام 1979 ، و حصلت خلال تلك الفترة على وكالة الخطوط الجوية الهولندية ... ثم قمت فيما بعد بتأسيس شركة الشمال للسفر والسياحة.
كانت الحرب الايرانية – العراقية التي اشتعلت نيرانها عام 1979 قد أوشـكت على الانتهاء عام 1987 و بعد ثمانية أعوام قاسية ، و شاءت الصدفة أن أكون من مواليد 1945 ومن ضمن الوجبة الأخيرة التي اسْتُدْعيَتْ للخدمة العسكرية. لبيت النداء والتحقت بالسواتر
الأمامية في حَلبْجة في شمالنا الحبيب و في قاطع السليمانية ...
، نعم في حلبجة ، وكم لهذا الأسم من أصداء كبيرة ،
وكم ضاعت حقوق و ارتكبت جرائم حرب تحت سمائك يا حلبجة ...!؟
بعد وصولي الى مقر السرية ، كلفت بواجب كاتب في المقر ، فكنت في المواقع الخلفية .. إلا أنه كان يتوجب علي الذهاب الى السواترالأمامية حيث مقر الفصائل ، لتوزيع الرواتب أو نقل برقية مطولة أو ما شابه ذلك. وفي أحد الأيام طُلب مني نقل برقية هامة إلى فصائل السرية الرابعة من فوج حرس حدود 25. و كان الطريق الى الربايا التي تقع على قمم الجبال في منطقة تسمى
(طويلة) ، يتطلب مني ساعتين مشيا على الأقدام.
أكملت المهمة وبدأت المسير في طريق العودة. توقفت عند مروري بالقاعدة الأمينة الواقعة في واد يخترقه نهر صغير يجري بقوة ، لزيارة أصدقاء لي هناك إضافة لوجود أخي التوأم لؤي مع صديق لي هو فتاح قصاب باشي. ألح علي الجميع بالبقاء معهم لتناول الغداء ، ألا أن قصفا شديدا من الجانب الأيراني انهال على المنطقة بعد فترة لا تزيد على نصف ساعة ، مما دفعني الى ترك الأصدقاء وأخي و التوجه الى موقعي في مقر الفوج على عجل.
التقيت عند وصولي بوكيل آمر الفوج النقيب اسماعيل من أهالي مدينة الموصل ، فوجدته متوتر الاعصاب بسبب صدور أمر بانسحاب منظم من المواقع ، إلا أن الأغلبية لم يستجيبوا له مما أثار حفيظته ، ذلك لأنه كان يدرك أن الأنسحاب لن يكون منظما بل عشوائيا ، لتأزم الموقف و قصر الوقت. و فعلا حدث ما توقع من ارتباك و فوضى بين صفوف الجنود...
تبينت الكارثة الحقيقية عندما اكتشفنا أن سبب صدور أمر الأنسحاب هو أن مواقعنا قد أصبحت مطوقة تماما من قبل القوات الأيرانية ، و بقينا على ذلك الموقف يوما و ليلة ، قضيناها في
هلع و خوف و توتر شديد. حدث ذلك في 15/3/1988. لم تكن لدينا أية وسيلة أو جهاز
يحدد موقعنا واتجاه سيرنا لأيجاد ثغرة آمنة نمر منها بعيدا عن القوات الايرانية المحيطة بنا.
فقمنا بالاستعانة بالنجوم ليلا لتحديد الشمال من الجنوب واهتدينا الى النجم القطبي الذي يدل على اتجاه الشمال ، لكن الحظ لم يحالفنا فقد فات الأوان ولم نسـتطع الهروب ، فتفرق الجميع وساروا متعثرين على غير هدى... و بصورة عشـوائية هنا و هناك ، لاشئ يدفعهم على الاستمرار غير الرغبة في النجاة من الأسر الذي أوشك أن يدركهم في أية لحظة.
كنت أنا و زميل لي ( موظف في مصرف الرافدين / بغداد) نسـير باتجاه مباشـر نحو الايرانيين ، دون أن ندرك ذلك ، حتى فوجئنا بوابل من النيران...، انبطحنا على الأرض و نحن مدركان أننا سنصاب باحدى تلك الرشـقات و أن الموت قد أصبح قاب قوسين أو أدنى.
شـعور لا يوصف ... وأنت تشـم رائحة الموت قد ملأت المكان المغبر و ترى الدنيا قد اسـودت أجواؤها حولك من كل جانب ، تتنفس بصعوبة و كأن الهواء قد اسـتنفد و حل محله الغبار الأصفر
القاتل ... ، ثم يعود الصمت فجـأة و تتوقف النيران الأيرانية. أحاول أن أتبين المكان حولي باحثا عن صاحبي فلا أراه... ، أنادي اسمه بصوت خافت فلا يجيب ... أكرر النداء دون جدوى. ثم يزول الغبار و تبدو تجاعيد الأرض حولي صامتة هي الأخرى ، حزينة مثلي وقد استلقى صاحبي الى جنبها ... ، وقد فارق الحياة.
جلست بقربه مذهولا وأغلقت عينيه و قرأت الشهادة في اذنيه. بحثت في جيوبه عسى أن اعثر على عنوان اهله ، فوجدت هوية الاحوال المدنية و اربع ورقات من فئة 25 دينار ، هي كل ما ترك الرجل بعد خلاصه من جنون الحرب.
لقي صاحبي حتفه هنا برصاصة طائشـة أردته قتيلا ، رصاصة أصابته هو و أخطأتني أنا
... خطوات قليلة كانت بيننا ... كانت الفرق بين الموت و الحياة ... ، أحمد الله على نجاتي ...
و أدعو لرفيقي أن يتغمده الله برحمته الواسعة.
-
يالهول الحرب و مآسيها ..
كم دمرت نيرانها من ملايين البشر و كم قضت على أمال و أحلام ...
وضعت أوراقه في جيبي و أخذت بندقيته أيضا. بعد قليل تجمع بعض الأخوة حولي فأوجزت لهم الموقف و رجوتهم نقل جثة أخينا الى سيارة متروكة على مسافة قريبة منا بدل بقائه على الأرض ، إكراما له... ، لكنهم نظروا إلي باستغراب و كأنهم يقولون أن لا وقت لدينا لذلك ،
فالموت لا زال محيط بنا و علينا ان نغادر المنطقة في الحال.
أجبرت على تركه في ظرف صعب و مرير...
، و سـرت مع المجموعة بعض الوقت... ، نفكر بما عسانا نفعل ...
، وبدا واضحا أن الجميع قد أدركوا أن الأسـر هو النتيجة الحتمية ... ،
و بينما كنت سارحا بفكري بعيدا ، سمعت صوت النائب عريف صباح البصراوي يقول لي:
" أخي قصي ، علينا تسـليم أنفسـنا قبل أن نقتل ، فالأمر قد انتهى..." ،
فأرد عليه : " يا أخي لا يمكن أن نستسلم بسهولة ، دعنا ننتطر فلعل الفرج يأتينا قريبا "
و كان بودي أن نجد حلا أخر غير الأستسلام و أن نستنفد كل المحاولات كي لا نندم فيما بعد.
استرعى انتباهي أحد جنود الفوج 25 و هو يخلي اقسام بندقيته من العيارات النارية ،
سألته " أخي ما ذا تفعل؟ " فأجابني :
" ! إذا وقعنا في الأسر سأريهم بندقيتي و كم هي نظيفة... و أني لم أطلق طلقة واحدة عليهم "
شعرت بالاهانة و الضعف ... كيف وصلنا الى هذا الحال ؟ ...
و أحسست في قرارة نفسي أن حياتنا قد أوشكت أن تدخل أسـوء فصل من فصولها ...
-
أشار احدهم الينا بالتوجه نحوه وهو يقف قرب بيت صغير من الطين ...
فذهبنا و دخلنا البيت الصغير لنجد داخله أصحابنا من فوج 25 مجتمعين فيه
و كأنهم ينتظرون المصير المجهول ... ،
لم ينبت أحد ببنت شفة ... صمت تكاد تسمع فيه دقات القلوب ...
و تعد أنفاس كل واحد منا... ، بيت من الطين في مكان أغبر ...،
يحيطه جنود ايرانيون يتربصون بنا ...
و بداخله عيون متراقصة يملؤها الرعب ... ، الخوف ... و الأمل في الحياة .
لم يدم انتظارنا طويلا ... ، سمعنا هدير دبابة تقترب من بيت الطين ...
طلقات نارية و صوت ينادي : أخرجوا ... ،
فخرجنا رافعين الأيادي ... و كل منا يرمي ما عنده على الارض
و بمقدمتها قبعة الرأس - البيريه.
شعور بالمذلة لا يوصف ... و مرارة لن يعرفها إنسان آخر ، إلا اذا عاش
التجربة وذاق قسوتها بنفسـه ... ،فها نحن نُسَـلم مصير حياتنا
لغرباء لا نعرف إن كنا سـنلقى العذابَ أم الرحمة منهم ... ،
متوكلين على الله أن يرعانا بين أيديهم
...
و منذ تلك اللحظة بدأت حياة الأســر ... ودخلنا في نفق مظلم ...
تلاشت فيه صور الحياة التي عرفناها ، و نحن نسير لمصير مجهول ... ،
و كان النور الوحيد أمامنا ينبعث من شعور بأننا سنعود يوما الى الوطن ... ،
حال انتهاء الحرب و تبادل الأسـرى ...
ولم نكن نعلم أن انتهاء الحرب لايعني انتهاء المناورات السياسية
و المساومات الدولية ،
والتي سنكون نحن أول ضحاياها...
و ستمضي أعوام طويلة نبقى فيها معتقلين و سجناء في عالم غريب منسي ...،
و أن العديد منا لن يعود لأهله ... وسيبقى مفقودا الى الأبد.
-
قصي محمد أمين الزهيري
-
أود تقديم الشكر لاخي العزيز قصي الزهيري الذي دعاني للمساهمة بتحرير ونشـر مختارات من
مذكراته لايام واحداث الاسر في معتقل ايراني. وساقوم باعداد ونشر
المزيد من ذلك في زاوية خاصة على صفحات هذا الموقع قريبا ان شاء الله.
سالم عبدالله الحسو
-
لأبداء آرائكم او التعقيب على الموضوع ، يرجى زيارة صفحة التعقيبات والآراء
عودة الى المحتويات
كافة حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع الحسو 2012