رحلتي في بلاد العمائم
مذكراتي في الاسر 1982-1990 الحلقة الرابعة
طارق الاعسم
(الامر يبدو كتقشير بصلة كلما تعمقت فيها اجهشت بالبكاء!!)
جندي السمينوف
اكتشفت لاحقآ ان كل اسير يؤسر كان يرى في اسره نهاية للحرب الطاحنة وانه سيرجع خلال ايّام وان استسلامه يعني ان الجيش العراقي كلّه استسلم وهزم وانه بالتالي سيعود لأهله سريعآ وكل شيء سيكون على احسن حال ,كان الجميع في حالة غيبوبة تامّة واحلام يقظة وغشاوة تمنعهم من رؤية المأزق الذي حلّ بكل واحد منهم ساعة وقوعه في الاسر!!.
استلم الحراسة في باب الجملون جندي ايراني قصير القامة لايتجاوز عمره الخمسة عشر ربيعآ!!
**هامش(علمت بعدئذ ان من ضمن القوانين العسكرية الغريبة في ايران ان بامكان من هم دون سن الثماني عشر ان يخدموا الخدمة الالزامية مبكّرا شريطة موافقة اولياء امورهم كي ينهوا الخدمة سريعآ ,وكان الكشاورزيّة(اي الفلاحون)يسارعون لتقديم ابنائهم مبكّرا للخدمة العسكرية خصوصآ مع تزايد نسبة الاميّة في ايران ,الامر الذي يتيح لهم استغلال ابنائهم مبكّرا في العمل بالزراعة واعانتهم على الحياة . وزاد اقبالهم على هذا الامر الغريب حين عمدت ايران الى عدم تمديد الخدمة الالزاميّة رغب اشتداد وطيس الحرب بسبب الاقبال الشديد للشباب الفقراء على الانخراط في الجيش بل والالحاح على الذهاب الى الجبهة للحصول على امتيازات مضاعفة من الحصّة التموينية لعوائلهم ومضاعفة رواتب المقاتلين في الجبهة لتصل لسبعة أضعاف رواتب اؤلئك الذين يخدمون في الخطوط الخلفيّة!! ، واصدر الجيش امرا ثانيا يتيح للاغنياء ابعاد شبح القتال عن ابنائهم حيث اصدر اوامر باعفاء كل من يمتلك ورشة عمل فيها مالايقل عن 15 عاملآ من الخدمة الالزامية واعتبار عمله في ورشته بمثابة البديل عن الخدمة في جبهات القتال فكان الاغنياء يعمدون الى فتح ورش يسجّلونها باسماء ابنائهم ليبعدوهم عن ويلات الحرب وبذلك فأن وقود الحرب كانوا من الاطفال والشباب الايرانيين الفقراء حصرآ)
يبدو ان هذا الجندي قصير القامة الذي كان يتسلّح ببندقيّة (سيمينوف) اطول منه بشكل مثير للسخرية ,كان معروفآ للاسرى في الجملون بكرمه الشديد!!! , فما ان استلم نوبته للحراسة حتى قفز عشرات من الاسرى للوقوف في طابور طويل امامه ...اصبت
بالصدمة حين رأيته يخرج علبة سكاير ويعطي لكل اسير سيكارة ويلفعه صفعة على خدّه وسط ضحك هستيري من زملائه ومن الاسرى الذين يتلقّون الصفعات!!... رأيت بأم عيني ضبّاطاً يقفون في الطابور المقيت غير آبهين بنظرات الاحتقار التي كانت تطاردهم من جنود اسرى استهجنوا المنظر المقزّز لأمثال نقيب حمزة الذي وقف في الطابور لمرّتين بعد ان نزع رتبته في المرّة الثانية ولفّ منشفة على رأسه كي لايعرفه جندي السيمينوف!!! سمعت زمجرة من اسير خلفي من اهالي العمارة: نعله على الجكاير اللي تذل صاحبهه .. والعبّاس ابو فاضل راح اكطعهه من اليوم!!!.
اغمي عليّ مرة اخرى يبدو ان وضعى الصحّي بات حرجا لكثرة مانزفت فقد صحوت على ممرضين مجنّدين ايرانيين يسكبون الماء على وجهي ويضعون مغذّي في ساعدي الايمن واخر ينقل لي دم في ساعدي الاخر وحديث يجري حولي من ضابط ايراني يأمر بنقلي مع اسير آخر على نقّالات الى احدى السيارات ليتم نقلنا على الفور الى مروحيّة خاصّة بالجرحى ثم عادوا وانزلونا منها لسبب لاأعرفه واعادونا الى السيارة لنجد انفسنا ممدّدين في عربة (كوشيت) في قطار.
شاهدت من الشبّاك جرحى من الاسرى العراقيين ينقلون الى عربات القطار الاخرى.. خلعوا عنّي المغذّي وكيس الدم.. تحرّك القطار وسط هتافات وتلويحات بالايدي من مواطنين مدنيين لم نفهم كنهها ولكنّها كانت شتائم بكل تأكيد (مايجعلني متأكداً هو بصاق المواطنين الذي كان يسيل على شباك حجرتنا في القطار!!
اغلقت علينا الابواب .. كنا نتلوّى من العطش والجوع ... فُتِحت الباب مرة واحدة فقط طوال الطريق ليلاً ورُميت لنا كسرة خبز تناولناها بشراهة ... صحونا في محطة طهران صباحآ حيث وصل القطار محاطاً بالعسكر وبمواطنين تجمّعوا يهتفون بهتافات متشنّجة ويلوّحون لنا باياديهم وتطاير البصاق علينا ولم يتدخّل الجنود الا بعد ان رُشق احد الجنود بفردة (نعال طيّاري) اصابته في جبهته!!!.
سارعوا بنقلنا في سيّارة مرسيدس (18) راكب نهبت بنا الارض وسط طهران الى (دزبان مركز" أي مقر الانضباط العسكري) وتم انزالنا في مستوصف صغير فيه قاعة تضم في كل جانب منها ستة اسرّة تديره نائب ضابط ممرض ايرانية اسمها قمر خانم .. اسم
على مسمّى , بطّة جميلة تلامس رموشها حواجبها اذا مافتحت عينيها اللوزيّتين.
تم تمديدنا على الارض امام المستوصف وجاء عقيد طبيب بملابسه مدنيّة اسمه عقيد اصباحي كشف علينا وسألنا ان كان فينا من يعرف اللغة الفارسية او الانكليزية ,تكلّمت معه بانكليزية اعجبته فأبتدأ بفحص حالتي.. كانت لديه شكوك بتلوّث جرحي الكبير في الفخذ وقال لي بانكليزيّة ركيكة:سأتولى علاجك بنفسي شريطة ان نتحادث معا لساعة في اليوم بالانكليزية كي اقوّي نفسي لان الدراسة عندنا حتّى في كليات الطب بالفارسيّة , وافقت بكل سرور فقد كنت مرعوبا من فكرة قطع قدمي اذا ما استمر تلوّث الجرح.
وضعونا على الاسرّة وكانت ستّة في كل جانب وكان الى يساري لسوء الحظ عبد الستار الذي رفض ان يحملني في ساحة المعركة وهو من عائلة غنيّة يمتلك ابوه اسطول سيارات حمل و مكتب مقاولات والى يميني مهندس زراعي ضابط مجنّد اصيب وجهه وجسمه بحروق شديدة نتيجة هبّة نار خلفية من (آر بي جي 7) من احد الجنود العراقيين بالخطأ, كنا خمسة من الاسرى الجدد ولم يكن اي منا قد رأى معسكرات الاسر فنحن جئنا من المعركة للمستشفى وترك القائمون على المستوصف سريرين فارغين كانوا يجلبون بين
الحين والاخر جنود ايرانيين للرقود فيهما وحين كنا نسأل عن وضعهم كانت الاجابة الجاهزة "تسممّ" ثم تبيّن بعدها ان السريرين مخصصين لعلاج الجنود المدمنين على تناول الترياق!!!.
قبالتنا كان صف من الاسرّة يشغلها جرحى من الاسرى العراقيين القدامى وكانت اصابات اغلبهم بالغة واقدام ثلاثة منهم معلّقة ومشوّهة واحدهم كان مقطوع القدم والسالم الوحيد كان (خميس) من اهالي المحمودية(جنوبي بغداد)وكان عبوساً دوما , ووظيفته القيام على خدمتنا في توزيع الطعام ومساعدتنا في قضاء حوائجنا في التبوّل والتغوّط دون مغادرة اسرّتنا بوضع اناء خاص تحتنا لقضاء
الحاجة.
دمعت عيناي حين قدّمت لنا اول وجبة طعام ,عبارة عن طبق رز وسوب خفيف تطفو فيه قطع جزر.. تذكرت ابنة شقيقتي (هدّاوي )التي كانت تتملقني ببراءة الاطفال حيت تتلصص عليّ في غرفتي ببيتنا حين اتناول طعامي كي ادعوها لتشاركني السُفرة الدسمة دوماً.
نمت بأحلام مزعجة مردّها الى الالم الشديد والامساك الشديد , فانا لم اقض حاجتي منذ اسري قبل اربعة ايام .
صحوت على جلبة في القاعة كان مصدرها اسير عراقي جريح استقرّت شضيّة في احدى عينيه وكان في غيبوبة اغماء حين دخلنا المستوصف امس .
كان يصرخ تارة بالعربيّة وأخرى بالفارسيّة ويبدو أنّه كان يطالب بمجيء مسؤول كبير ليشكو حالته..جاء له احد العرفاء وزجره بشتيمة فأذا به يردّها بشتيمة بالفارسيّة اطارت عقل العريف الذي هجم عليه واذا بالصراخ يملأ المكان وحينها فقط فجّر الجريح مفاجأة اذهلت الجميع حين بدأ بالصراخ بالفارسيّة بخطبة لم نفهمها وكان بين الفينة والاخرى يشير الينا بأصابعه بغضب ولكن الغريب في الامر ان الجنود الايرانيّون كانوا يستمعون اليه بذهول وهدأ كل شيء واخرج العريف الجميع وبدأ يهامسه ويسجّل بيانات منه بورقة صغيرة ثمّ صافحه وانصرف مسرعآ!!! وسط دهشتنا جميعاً
طارق الاعسم
----------------------------------------------------------------
يمكنكم مراسلة السيد طارق الاعسم على الايميل ادناه
[email protected]
----------------------------------------------------------------
لأرسال التعقيبات والملاحظات أو لقراءتها ، يرجى زيارة صفحة تعقيبات الزوار
To Add a comment, visit our Contact Page for more options
------------------------------------------
نشرت على موقع سنين الضياع في 30-4-2013
------------------------------------------------------
عودة الى صفحة مذكرات الأســرى