من مذكرات وســام الحكيم
الذي قضى اكثر من ثمان سنوات أسير حرب في ايران
سنين في سطور ... الحلقـة 4
بين مدينتين
بعد اسراع العربات بقليل لم نعد نر خارجا سوى الظلمه وكان الحراس يحرصون على ان نتبع التعليمات بعدم مغادرة الحجرات التي بقيت ابوابها مفتوحه , مما يسهل للبعض استراق نظرات على الممر للاطلاع على ما يجري وما لا يجري ,الشئ الوحيد الذي جعل المكان مثل خلية نحل هو خبر البدء بتوزيع ثاني وجبه لهذا اليوم والكل يتساءل ما ستكون... وانا افكر كيف سيتم تقديمها لهذا
الكم من (الضيوف) وكانت قنوات الفضوليين تخبرنا الى اين وصل الطابور وبعد قليل جاء حرس واختارني من الغرفه لاني كنت البس حذاءا وعندما خرجت من الغرفة ناولني سطلا بلاستيكيا واشار لي ان اتبع اسير اخر من الغرفه المجاورة كان مثلي مسلح بسطل وحذاء وشاهدنا اثنين اخرين عائدين من العربه المجاورة بسطلين مليئين بكبه مثلثة الشكل .. الحرس الذي اصطحبنا قال بابتسامه : يللا..كان داكن السمرة حاسر الراس بشعر قصير فاحم بلمعه وابتسامته الوديه تفصح عن اسنان ناصعة البياض وبدلته االعسكريه مثل كل زملائه نسخه مماثله للزي العسكري الاميركي تحمل الاسم على جانب والصنف على الاخر واذكر الجزء الاول من اسمه محمد نور والصنف "بياده" يعني مشاة.. لم يكن مسلحا ولكن الاخر في نهاية العربه كان يحمل بندقية أم16
, محمد انتهز الفرصه وذكر لنا انه من بلوشستان وطمأننا باختصار ان الحرب انتهت بالنسبه لنا وسنذهب الى معسكرات بانتظار النهايه والعودة " وتعيشون وتسلمون "
كان لطيفا منه محاولة اعادة الامل فينا وكانت تغلب على "المحادثة" على الماشي
كلمة ان شاء الله ...
في مثل هذه الاجواء, قطار ليس للسياحه ونحن محاطين بمسلحين ونبتعد في اعماق الجانب الاخر ولا اعتقد ان القطار كان يستطيع الابتعاد بنا اكثر مما احس, كيف لي ان اتفاءل؟..
نبهني وجود المسلحين بين العربات واثناء العبور فهمت لمَ اختاروا من لديه حذاء فقط حيث المسافة بين بابي العربات ارضيتها شبكتين معدنيتين وتتحركان مع حركة العربات , دخلنا القاطرة الاخرى وكانت شبه خالية عدا عن طاولة طعام مدورة بعيدة يحتلها رجل اشقر حليق الذقن بيده سيكارة يلبس بدله زرقاء وينظر الينا بلا اي رد فعل او انطباع وفي وسط العربه قدر طعام كبير يسمونه قزان
مفتوح وشبه ملئ بالكبه التي راينا الاخرين ينقلونها الى عرباتهم وكان هناك قدر اخر مغطى وبجانبه بضعة اكياس من الخبز يختلف عما اعتدنا عليه وكيس فيه كؤوس بلاستيكيه ملونه , كان هناك بضعة جنود يتحاورون واحدهم يشرف على "القزان" وسأل بدوره مرافقنا كم عددهم ؟ وراح يحول الكبه الى السطل واحدة لكل نفر منا مع الكؤوس البلاستيكيه"الخاليه" وهنا سمعنا احد الجنود يوجه كلامه نحونا ولم نفهم سوى كلمة "سدّام" مما حدا بمرافقنا محمد لجوابه الذي لم نفهم منه سوى اللهجه واحببت ان افهمها
خليهم بحالهم, ولم يستسلم الذي سأل فأعاد "فارسي ماكو,ها؟.. يبدو انه جربها مع اخرين
فرد محمد بلهجه اقوى مع نظرة : بسّه دكه..الدال مكسوره والكاف عليها خط ..
وكان يعني: كافي عاد..
كان واضحا على الرجل بالبدله المدنيه عدم الارتياح فنفث الدخان مع هزة تأسي بسيطه براسه.
نظر الي صاحبي الذي اراه للمرة الاولى والاخيرة وهو يحمل السطل ويسير امامي بقليل
"هذا محمد كلش خوش ولد". سمعه محمد فابتسم وبانت اسنانه كلها وقد فهم : خوش .. برادران...
بعد قليل اعقبها بتوصيه : هَر نفر يك دونه يعني كل واحد قطعه واحدة ... دخل صاحبي الى عربته قبلي فملأها سعادة ...وكذا فعلت انا وقلت
اخوان كل واحد وحدة ...وكانهم اتفقوا على السؤال مباشرةً :
اكو جاي ؟
والله ما ادري ...
شنو خبز ماكو؟
فرد مستهزئ : قابل مضيف ؟
كنا نتناول طعامنا حين جاء الحرس يسحب خلفه احدنا وسأل عبر المترجم :
ياهو منكم جاب الاكل؟
ففكرت خير انشالله شكو؟ وأجبت: آني
المترجم : هذا جاب لجماعته الحصه نقص وحدة ... ، حاولت التخفيف لانهم كانو اكثر من متحفزين : اخويه ممكن يصير خطأ بالحساب, واذا تكول اكلهه بالطريق فمو ممكن ,الحرس ويانه طول الوكت ...
فترجم وكأنه يحاول اقناع صاحبه فتشجعت عندما اكمل:"ابن العم" ممكن خطأ بالحساب فأحسست باقتناعه بانها "ماتسوه" ويمكن تحركت عنده الحنيّه فأقنع الاخر بترك المسكين : شكرا خويه قالها عندما تركوه مع قطعة اضافية من سطل ملئ حمله معهم اخر كان للتعويض او توزيع ما تبقى و الذي نفذ بسرعه حين ارادوا توزيعه على الغرف ,وما زالوا يعودون بسطلهم الفارغ حتى وقف احدنا
بيده سطل شاي وخلفه حرس
ها شفتو يعني اكو جاي... وساد التسامح لاستلام الشاي وانتهى التوزيع بيسر, وتوجست في هذا المكان الضيق حين بادر احد المستمتعين :هسه اجه وكت الجكاره ..
حيث ان عيني ستحرقني بلا توقف. فهدأني قاسم المتوثب للتدخين:
بس غمض عينك كبل ما يدخنون وراح يصير وكت النوم
وانقذني أمر الحرس الذي فهم مباشرةً : دخانيات؟ نيست ..هيج ,
كلماته واضحه: تدخين ؟ماكو ..اصلاً
وبحركة راسه الناهيه ونظرته المُهدده :
ممنوعه (ممنوع است) فهميدي يعني افتهمتو؟
بعد الوجبه ذهبنا الى المرافق حيث تمكنت لاول مرة من مواجهة المرآه التي كانت اخر ما ابتغي وغسل وجهي بسرعه حيث يستعجلنا الحرس بركل الباب بدون توقف بعد دخولنا بثوان ويفحصها بنظرة سريعه بعد كل واحد منا.. ، واستغربت في البدايه هذا التصرف ولكني توقفت عن لومهم بعدها حين ادركت فيما بعد ان الاكثريه فينا لا يعرف استخدام المرافق الصحيه ...
حين دخلت الجامعه تفاجأت باني لااعرف بلدنا بوضوح وازددت دهشه حين دخلت الخدمه العسكريه بجهلي بالناس تماما وجاءت الجبهه لترسم صورة اوضح, وفي اقل من يومين ادركت انه مايزال امامي الكثير لأتعلمه...
جاء وقت النوم واختزلت الانارة الى النصف وابتدأ الجميع بتقاسم المقاعد (راس ورجل) ,انا لم ازعج نفسي او احد وتركت لصاحبي المقعد وافترشت الارض وكانت نظيفه وجهاز التدفئه تحت المقاعد جعلها"وثيرة",
ما زلت اسمع لغطا وشيئاً من دخان سيكائر في الطابق الاعلى .. لا ادري كيف ومن اين؟..
لم احس بحرقة بعد في عيني فقد سبقها النوم ,ايقظتني من النوم حرارة المكان وبعد قليل وجدت بسطال الحرس قرب وجهي وهو يقف في الغرفه محاولا فتح الشباك حيث ارتفعت حرارة المكان ولاادري كيف بقي النائمين في الطابق العلوي على نومهم .
رغم ان الحرارة لم تكن طبيعيه .. نهضت لافسح له مجالا ولئلا يدوسني اثناء انشغاله فقال بهدوء :بخاب يعني: نام ودخل علينا هواء مثلج ولم يلبث ان جاء اخر وطلب منه غلق النافذة
بعد ان عادت الحرارة الى طبيعتها فقد تم انزال حرارة المدفأة..
لم استطع العودة للنوم مباشرة فنظرت من الشباك وكنا قد توقفنا ولا افهم
لماذا التوقف في محطات لاتوجد قربها حتى قريه.. فقط بنايه بسيطه قديمه .. وهنا خرج
رجل بيده فانوس من البنايه وهو يردد الهتاف الذي نسمعه منهم كلما مررنا بالمحطات :
اسيرا اسيرا.. يعني اسرى اسرى وتساءلت هل يفعلها احدنا
وتحرك القطار بعد توقف قصير جدا ولكن ذو الفانوس اصر على الركض والهتاف..
اهوه يمعود دروح نام..
لم نعرف من كان وراء العمليه الحراريه التي اثارت الرعب في الحراس ولكنها لم تلق اثرا في صفوفنا حتى ان الكثيرين ممن صحا صباحا لم يعلموا بما حدث .. ولم يكن مهماً فعند الفجر كنا قد توقفنا قرب قريه الجزء الثاني من اسمها آباد والحديث الان ماهو الفطور؟ .. ونهض قاسم ليجد احدهم يقاسمه المقعد فقد نزل من فوق واستسهل النوم قرب صاحبي الذي ايقظه وهذا الاخير تسلق بسرعه وسأل :ها اكو جكيره "مصغر جكاره" بدون تحقير بل تحبب
التفت الي قاسم مبتسما :ها شلون جانت نومتك؟ .. اني هذا كسّرني
لا اني زينه الحمد لله, تره تعودنه فتره طويله بالجبهه ننام عالكاع و جوه الدبابه
وحتى على كاعيتها الحديد...
دخل علينا احد نزلاء غرفتنا محمل بخبز وتمر وخلفه جندي اخرج من صفيحة تنك وبملقط قالب من الجبن الابيض وضعه على كيس البلاستك , باشر احدنا بالتقسيم مستخدما يده (النظيفه ؟) للخبز والتمر والجبن بلا اعتراض من احد ,استلم قاسم حصتينا فاخذت انا الخبز فقط وانقذني او هكذا احسست سطل الشاي واحدهم يغمس دلوا بلاستيكيا ويصب للاكواب الممدودة ولكني رغم ان الشاي خفيف الطعم فلم اتعود شربه بعد بدون سكر فسمعت الجالس فوق :
خويه اذا ماتشرب ناوشنياه .. وسالت قاسم اذا كان يريده فتناول مني الكوب وافرغه
في الكوب الممدود من الاعلى مع بقية الجبن والتمر...هاك اُخُذ
كان بعضهم حين ياكل تستطيع رؤية اللقمه تدور في فمه ناهيك عن الاصوات , ولم اكتم الفكرة فضحك قاسم : يمعود اصلا قسم تكدر تحسب سنونه وتشوف حتى بلاعيمه.. فأسكته:
دخيلك لاتكمل تره الخبزه كوه جرعتها ...ضحك ولاحظت ابتسامته... يتابعهم وهم ياكلون وعيونهم على لقمتهم واكل الاخرين ... وشغلت نفسي بالنظر الى الاراضي الشاسعه الخاليه وفكرت بصوت يسمعه صاحبي :
عدنا وعدهم كيعان محد بحالهه ,على شنو متحاربين ؟
اشو الحدود جوله, تراب وتذري..(ساذج)
واكمل الجالس امامي : خسرانين خسارة بولد الخايبه ...
فسكتُّ ولم اشأ ان يكون حواراً مفتوحاً
المسافة المتبقيه كانت بين حوارات متفرقه وذهاب الى المرافق واكثرها عيوننا تتجه خارجا , ومحطات صغيرة ياتينا منها هتاف لم نعد نلق بالاً له.. , ينبهنا اليهم احد المتابعين :
هذا صدك عنده خلك .. دوللي كبر لفك
محطه واحده لفتت انتباهي قبل طهران بقليل توقفنا فيها قليلا وجاء قطار بالاتجاه الاخر وتوقف جنبنا .. ، وكنا نستطيع رؤية المعدات العسكريه (جديده غير مستعمله) مختلفة المنشأ شرقي وغربي وتحركنا بمجرد توقفه مما منحنا الفرصه لنمر ببطء ونرى ما يحمل ... لوريات عسكريه ايفا الماني شرقي, كاز روسي,ريو اميركي ومدرعات ودبابات روسيه واميركيه والمانيه غربيه ومدافع مختلف العيارات والمناشئ وهاونات وسيارات جيب تحمل مدافع106 مل ...القطار كان طويلا ويسحب اكثر من سبعين عربه ,كنت اعد العربات ولم استطع ان اكمل حيث بدا قطارنا يسير بسرعه ولاحظنا تراكض الحراس وارتدائهم كامل العدة بوجوه متوترة واوامر من عريف مستعجل مع (لوكي) يركض وراءه .. هنا مر بنا محمد نور وسلم علينا (صبح بخير) ... نسمعها سُبّه خير ورد الجمع
صباح الخير. وتحدث وكأننا نفهمه .. ،عرفنا منه اننا اقتربنا من طهران وبانت ملامح المدن الكبيره ..
كان محمد يجمع اسماء قسم من الاسرى وكأنه في سفرة تعارف و كنت انا واحدا ممن كتب لنا عنوانه وسال عن عناويننا وحاول البعض اعطاءه ارقام تلفوناتهم لابلاغ اهلهم .. وهنا فقط توقف وادرك اننا في حرب؟
ملاقاة بعد از جنك تمام شود .. نلتقي بعد ان تنتهي الحرب ... قالها موضحا واحسست انكماشه بعد ان رأى حجم محاولته بناء صداقه(مع العدوفترة الحرب) اكبر مما يتصور..
قاسم نبهني مباشرةً :اذا لكو عنوانه عندك راح يتأذى خطيه
فقلت: ادري مارا ح اكولّه ..واتلفت العنوان حال ذهابه...
انا لم افهم ماكان يجول بخاطر هذا الانسان .. كل شئ فيه ابيض واسود, الكل لاحظ ذلك فيه وأثنى عليه كلما مر بنا : آغه محمد خوب.. يعني زين وكان ذلك يزيده ابتساما ويرد مهدئا بيده :ممنون
وصلنا الى المحطه وتزايدت اصوات التعليمات العاليه واخذ الجند مواقعهم ونزل قسم كبير منهم باسلحتهم الموجهه واعينهم المترقبه ..كنا بانتظار دورنا في النزول وجاءنا حرس مشيرا بيده :
فاهد فاهد سرئ
واحد واحد سريع.. وخرجنا بانتظام الى الممر الملئ بالمسرعين للنزول بمساعدة الحراس، وحين وصلت الباب تفاجأت بمحمد نور يوقفني ويناول بندقيته الى زميله ويشد على يدي :
خدا حافز ورددت خدا حافز أغا محمد ممنون ,
واستغربت عينه التي ترقرقت بالدموع دافعا بي الى الباب:
خيلي متاسف آسف جداً
وسام الحكيم
-----------------------------------------
لأرسال التعقيبات والملاحظات أو لقراءتها ، يرجى زيارة صفحة تعقيبات الزوار
To Add a comment, visit our Contact Page for more options
------------------------------------------
نشرت في 13-5-2013
عودة الى صفحة حديث الاسرى